سوريا 2025- اتفاق تاريخي بين دمشق و"قسد" يوحد البلاد.

في منعطف تاريخي يكتنفه الأمل بغدٍ أفضل، تم في العاصمة السورية دمشق، إبرام اتفاق مصيري بين الرئيس السوري أحمد الشرع، والقائد العام لقوات سوريا الديمقراطية "قسد" مظلوم عبدي، وذلك يوم الاثنين الموافق 10 مارس/ آذار 2025.
يمثل هذا الاتفاق منعطفًا حاسمًا في تاريخ سوريا الحديث، إذ يجمع الأطراف المتنازعة ويضع حجر الأساس لمصالحة وطنية راسخة، ويشكل رسالة مدوية لكل من شكك في قدرة الشعب السوري على تحقيق وحدته وأمنه، وذلك عقب انهيار نظام بشار الأسد.
وقد تلاقى توقيع هذا الاتفاق مع لحظة مفصلية في حياة الشعب السوري، وذلك بعد الكارثة الكبرى التي ضربت مناطق الساحل السوري في محافظتي اللاذقية وطرطوس، حيث سعت بقايا النظام السابق إلى إذكاء نار الفتنة الطائفية لجر البلاد إلى أتون حرب أهلية لا تبقي ولا تذر.
خلفية الاتفاق
مما لا شك فيه، أن هذا الاتفاق لم يأتِ بين عشية وضحاها، بل هو نتاج مخاض عسير ومحادثات سرية مضنية بين الطرفين، والتي استمرت منذ سقوط نظام الأسد. فلقد استقبل قائد "قسد" مظلوم عبدي في دمشق برفقة جنرال أميركي، إلا أن الشرع رفض الاجتماع به آنذاك، وتم الاتفاق مع الأكراد على جملة من النقاط، والاختلاف على أخرى، والتي تبين لاحقًا أنها تفصيلية وتتعلق بدمج القوات الكردية في وزارة الدفاع السورية، ورغبة الأكراد في اعتراف الحكومة السورية بالهوية الكردية في البلاد.
ولعل القضية الأكثر تعقيدًا والتي أخرت إعلان الاتفاق، كانت تتعلق بمصير سجون عناصر تنظيم الدولة الإسلامية، وخاصة سجني "الهول" و"الصناعة" في منطقة غويران بمدينة الحسكة، حيث يقبع آلاف من عناصر التنظيم، بمن فيهم قيادات بارزة. فقد بقي الموقف الكردي مترددًا حيال تسليم السجون، ومرتبطًا بموقف الإدارة الأميركية، التي ترى أن النظام السوري الجديد لم يقدم الضمانات الأمنية الكافية لحماية تلك السجون ومنع تعرضها لعمليات اختراق تؤدي إلى فرار مقاتلي تنظيم الدولة.
ولكن يبدو أن إعلان الإدارة الأميركية الجديدة عن عزمها سحب القوات الأميركية من شرق سوريا، وتأييدها لاتفاق السلام بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني، قد خفف الضغط على قائد قوات "قسد" مظلوم عبدي، ودفعه للموافقة على تسليم السجون، بعد أن كان قراره في السابق معلقًا بالموافقة الأميركية.
ولا ريب أن هذا الاتفاق ستكون له تداعيات إيجابية على وحدة سوريا الوطنية، إذ سيعزز من قدرة النظام الجديد على التفاوض مع جماعات محلية أخرى، لا تزال تنظر إليه بعين الريبة والتهديد لوجودها وهويتها، وخاصة في مناطق الساحل العلوي، وكذلك في جبل العرب في السويداء، حيث يشكل الدروز أغلبية السكان.
والمأمول أن ينبه الاتفاق الدروز إلى ضرورة عدم الانزلاق إلى خانة المعارضة التي تنطلق منها دعوات تفكيك سوريا، وخاصة من قبل إسرائيل، التي أعلن رئيس وزرائها قبل أسبوعين عن دعمه لما يسمى بـ "تحالف الأقليات"، والذي يضم الأكراد والدروز والعلويين، وربما يشمل المسيحيين، لمواجهة النظام السوري الجديد.
كما سيعزز الاتفاق الحضور الشعبي لنظام الشرع، كونه يتوافق في جوهره مع أهداف الثورة السورية، وسعي الشرع لاستعادة وحدة سوريا، والشروع في عملية سياسية تحتضن الجميع، كما أنه جاء تأكيدًا لمخرجات مؤتمر الحوار الوطني الذي انعقد في فبراير/ شباط 2025، والذي أكد على وحدة سوريا أرضًا وشعبًا، وعلى حق الدولة وحدها في حيازة السلاح، وبسط نفوذها على كامل التراب السوري، وبناء دولة القانون التي يتساوى أمامها الجميع.
المواقف الإقليمية والدولية
لا شك أيضًا أن الاتفاق لم يكن مجرد تفاهم داخلي بين الشرع ومظلوم عبدي، فالنوايا الحسنة وحدها لا تكفي لإنجاز اتفاق تاريخي له انعكاسات إقليمية ودولية واسعة.
وبناءً عليه، فإن المناخ الدولي كان من أهم العوامل التي دعمت الاتفاق الحكومي الكردي. فالولايات المتحدة منحت الضوء الأخضر لقائد قوات "قسد" للمضي قدمًا في الاتفاق، ودمج قواته في وزارة الدفاع السورية، كجزء من إستراتيجية ترامب للتخلص من الأعباء المالية لـ "قسد"، والتي تكلف الخزانة الأميركية ما يزيد عن 500 مليون دولار سنويًا، منذ تأسيسها أميركيًا عام 2015.
ومن الواضح أن الرؤية الأميركية أخذت، منذ سقوط الأسد، تركز على إعادة تأهيل سوريا لتكون لاعبًا أساسيًا في ترتيبات الشرق الأوسط الجديد، وأن إقامة نظام جديد في سوريا مرتبط بتدفق النفوذ الأميركي في سوريا في المستقبل المنظور، سواء لجهة التطبيع المستقبلي مع إسرائيل، ومحاصرة تهديداتها الأمنية المتمثلة بحزب الله اللبناني، أو لجهة تعزيز الامتيازات الاقتصادية للشركات الأميركية في سوريا، في قطاعي النفط والغاز والبنى التحتية.
وعليه، أعطت إدارة ترامب الضوء الأخضر لإعادة تأهيل ومساندة النظام السوري الجديد، وتسهيل سيطرة الجيش السوري على كامل الأراضي السورية، ولهذا فمن المرجح أن تشهد المرحلة المقبلة توجهًا أميركيًا لتخفيف أو رفع العقوبات الاقتصادية الأميركية والأوروبية، وبما يساعد في تسهيل تعاملات المصارف الدولية مع سوريا، والشروع في علاقات دبلوماسية تمكن القيادة السورية من ضبط الواقع الأمني، وإعادة دمج سوريا في المنظومة الدولية، بعد أن تضمن أن النظام الجديد لن يكون محطة لتصدير الإرهاب، كما كان يفعل نظام بشار الأسد.
أما تركيا، فعلى الرغم من قبولها الحذر للاتفاق، إلا أن من الجلي أن الاتفاق جاء كنتيجة مباشرة للإعلان التاريخي الهام لحزب العمال الكردستاني التركي، بوقف عملياته العسكرية ضد الجيش التركي، مما شكل حافزًا لقادة سوريا الديمقراطية للمضي قدمًا في توقيع الاتفاق، وتطمح تركيا في ألا يضمن الاتفاق مستقبلًا أي سيطرة سياسية وأمنية لـ "قسد" في مناطق شمال وشرق سوريا، وألا يكرس أي شكل من أشكال الحكم الذاتي لأكراد سوريا، يمكن أن يهدد مستقبلًا الأمن القومي التركي.
ألغام في طريق الاتفاق
كما ذكرنا سابقًا، فإن هذا الاتفاق يمثل خطوة تاريخية هامة نحو استعادة وحدة سوريا، وتوحيد جيشها، وتعزيز اقتصادها. فانضمام قسد إلى الجيش السوري سيعزز من القدرات القتالية للجيش، فالمقاتلون الأكراد مدربون تدريبًا عاليًا على أيدي القوات الأميركية، ومجهزون بأحدث الأسلحة. كما أن استعادة ما يزيد عن 27% من الأراضي السورية، وما تحتويه من ثروات نفطية وحقول غاز ومعابر حدودية ومياه، ستمكن النظام السوري الجديد اقتصاديًا، وتساعده في معالجة العديد من مشكلات الفقر والبطالة وتنمية الاقتصاد السوري، من خلال تنشيط صناعة النفط والغاز والزراعة والصناعة في مناطق شمال وشرق سوريا.
ولكن كما يقال، فإن النوايا الحسنة وحدها لا تكفي في عالم السياسة. وعليه، فإن استمرار هذا الاتفاق حتى نهايته يواجه جملة من المخاطر، لعل أبرزها ما يتعلق بإعادة دمج قوات قسد في صفوف الجيش السوري. فهل سيتم دمج جميع عناصرها البالغ عددهم 120 ألف مقاتل، أم سيتم قبول مجموعات وتسريح أخرى وإحالتهم إلى وظائف مدنية؟
وهل سيتم قبول المقاتلين الأكراد وتسريح المقاتلين العرب في قسد؟ ثم ماذا عن الأسلحة الأميركية، فهل سيقبل النظام الجديد وكذلك تركيا باحتفاظ "قسد" بأسلحتها الأميركية المتطورة، أم سيتم نزعها وتسليمها لبقية فصائل الجيش السوري؟ وهل سيتم توزيع قوات "قسد" على وحدات ومناطق انتشار الجيش السوري، أم ستبقى القوات الكردية متمركزة في مناطقها الحالية؟
أما من الناحية الاقتصادية، فعلى الرغم من أن الاتفاق سيفتح آفاقًا اقتصادية هامة للاستثمار الأجنبي، وسيساهم في تغيير بنية الاقتصاد السوري، من خلال إلغاء القوانين الاقتصادية الاشتراكية القديمة والمعرقلة للاستثمار، فإن انتزاع سيطرة قوات "قسد" على مصادر التمويل المالي الكبيرة المتحصلة من تهريب النفط والغاز والزراعة والمعابر، ليس بالأمر اليسير، في ظل وجود مافيا السلاح والجريمة والمخدِرات، وفي ظل وجود جماعات كردية معارضة للاتفاق، ومجموعات منفلتة من مقاتلين أجانب، استمرأت تجارة المخدِرات وتهريب النفط والسلاح عبر الحدود.
ومما لا شك فيه أن التحدي الإسرائيلي لا يزال يشكل أحد أهم العقبات المستقبلية لعرقلة الاتفاق، فالاتفاق أعاد الأكراد إلى كنف الدولة السورية، مما شكل ضربة لإستراتيجية تل أبيب في تحريك ملف الأقليات في سوريا، وإضعاف نظامها الجديد.
وعليه، فمن المرجح أن تعيد إسرائيل تفعيل إستراتيجيتها، من خلال دعم بعض الأطراف الكردية وغير الكردية المتضررة من هذا الاتفاق.
ختامًا، يبقى هذا الاتفاق خطوة حذرة في مسار سياسي بالغ التعقيد، وسيتقرر مصيره بناءً على قدرة الأطراف المعنية على تحقيق التوازن بين المصالح المتضاربة، ومواجهة التحديات الداخلية والخارجية.